العُزلة "الفصل الأول".
لم أقرأ سوا البؤساء وجداريات لا تعرفُ غير لغة الحُب ،
لم أجلس مع كُتّاب أو أدبيين أو أشخاص ذو فكرٍ عالي ،
كلهم متناقضُون فيما بينهم وما بين أفكارهم ،
من هُنا لـ هُناك مسافة خط وأغنية وأميال فكرية ،
تلفاز قديم وشُباك مُتهالك يطلُ على وادي ليس به شجر او شيئًا على قيد الحياة ،
جلستُ في تلك الشقة ثلاث أشهر ولم أدخل الغرفة الثانية سوى بضع مرات ،
لم أخرج كثيرًا فاكنتُ كلما أخرج أشتري الأكل المُعلب والجاهز كيلا أطر للخروج بحثًا عن الأكل ،
فُندق قديم ومتداعي ، لا يعرفُ المالك إن كنتُ حيًا أو ميت ، مريضًا أو بخير ،
لا يطرقُ بابي ولا يوجد هاتف في الشقة ، لا أراهُ ولا يراني ، أخرج وكأنني أتجنبُه ،
حينما دخلتُ للمرة الأولى لأستأجر ، أخبرتهُ بأنني أريدُ غرفة لا تطلُ على بحر ،
ضحك قائلًا : ليس هناك بحرًا ولا ربيعًا ولا ينبتُ الزهر هُنا ،
قال أيضًا : كل الغُرف مستأجرة بالفعل إنما هناك شقة بغرفتين !!
قلتُ لا يُهم إن كان سعرُها سعر الغرفة الواحدة ،
قال : لكم ليلة سوف تبقى ؟
يا سيدي لا أعلم رُبما يوم أو أثنين رُبما إسبوعًا أو شهر ورُبما ثلاثِ أشهر ،
يا سيدي سوف أدفعُ لك لثلاث أشهُر مقدمًا وإن لم أكملها سأتي إليك لأخذ الباقي ،
إتفقنا ودخلتُ إلى شقتي وذهب يُكمل عمله ، لا أعرف ما كان إسمُه ولا أتذكر ،
لا أعلمُ كم بقيتُ هنا ، رحلتي لم تكن للترفيه أو إيجاد نفسي ،
تلفاز قديم يصدر منه صوتًا مزعجًا ، وشُباك يطل على خراب ،
سرير قديم بملاءة رمادية مُتشققة ، وجدار مُتصدع وإصفر لونه ،
لا أُملك سوى قلمي وتلك الكُتب ، سافرتُ بعيدًا وإنعزلتُ عن كل شيء ،
خرجتُ من المدينة وتلك المنتزهات والحدائق وسافرتُ الى وادي قاحل ،
خط عريض ومليون إختلاف بين تلك المدينة وهذه القرية ،
كأنني عبرتُ الحدود بين اليمن والسعودية حرب مُستديمة وصراع من أجل الحدود ،
لم أعبُر الحدود وكأنما سكنتُ هناك بعد الحرب ، أنقاض وكل شيء ميت ،
جلستُ على ذلك الكرسي المهترئ في تلك الزاوية حيث النور خافت مناجيًا أفكاري بأن تتجلى أمامي ،
أحادثُ نفسي متفكرًا في هذا العالم وفي وحدتي وإنعزالي ،وكم إن هذا العالم مستوحد ،
قادتني نفسي من مجتمعي وعالمي ، قادتني لهذه الشقة والوحدة ، ولستُ وحيدًا في هذا المكان ،
نحنُ نستكشفُ الحضارات والتقاليد ونظن إننا إكتشفنا العالم، العالم أكبر من أن يُستكشف ،
قيدتني فكرة إننا هالكون ولا نعلم متى وأين ، ولا نعرفُ لأي مدى سوف نصل ،
خفتُ أن أموت وقتها ولا أحد يعرفُ مكاني ، ولا مالك الشقة أدرى بحالي ،
في ليلة باردة كنتُ متشحبًا من البرودة ،أتى إلي ضيفٌ من الجن بهيئة كهل ،
بغيضُ الوجه والملامح ،قصيرُ القامة ذو لحية شاحبة وبرداءٍ رث وممزق كالمتسولين ،
كان يجلسُ على ذلك الكرسي المهترئ يتحرك الكرسي ويصدرُ صريرًا ،
حدق بي قائلًا لا تبدو خائفًا ولا مذعورًا ، تُحدق بي وكأنك إعتدت على رؤيتي ،
أجبتهُ مُستهزاءً لستُ بخائف ولا حول لك ولا قوة علي ،
أنت تُسير في الليل وتُرعب ضُعاف القلوب والأطفال والنساء وتحترق مع شروق الشمس ،
أنا لا أسيرُ ليلًا ولا نهارًا ، أنا أتجنبهُم ويتجنبوني وكأنني عفريتًا من الجن أو غولًا ،
أنت تُخيفهم ولا تُخيفني ،
قاطعني متحدثًا بصوتٍ غاضب وبنبرة حادة وخشنة ومنفعله ،
أنا ترتعدُ البشر والحيوان لرؤيتي ، وتهتزُ أغصان الشجر عندما أخطوا بجانبها ،
أنا هولُ الليل ومصائب قوم ، وأنا الليلُ ويُدفن النهارُ بداخلي ،
أنا الحاضرُ الغائب ، وسيدُ الوحوش والعفاريت ، قال أنا ونهض من الكرسي ،
لم أخف أبدًا ، ولم ترمُش عيني وإنما إقشعر بدني ،
قلتُ له كُن من تكون وماتكونُ من وحشية ، أنا معي الله ولا أخافُ سِواه ،
أستمدُ قوتي من الله ، وسلاحي القرآن ، أستطيعُ حرقكُ بأيات الله العظيمة ،
ستُحرق وتهبُط الى جهنم بجوار أبيك ، ولا حول لك ولا رادع من عذاب الله ،
أراد مهاجمتي ولكن كنتُ متحصنًا بإسم الله الذي لا يضرُ مع إسمه شيء لا في الأرض ولا في السماء،
أخرج من شقتي قبل أن أحرقك وأنزل عليك العذاب ،
أخرج وإن كنت تُريدُ سلامًا أطرق الباب كالضيوف حتى أسمحُ لك بالدخول كضيف ،
نمتُ ليلتُها وعيني لا تفارق ذلك الكرسي ، كان يهتزُ ويصدرُ صريرًا ،
لا أراهُ ولكن كنتُ متأكدًا بأنه لا زال هنا يُحدق بي وينتظرُ فُرصة للإنقضاض علي.
تعليقات
إرسال تعليق